روحانية مباشر
ahly1
روحانية مباشر
مفاتيح الغيب أو "التفسير الكبير"... في الأسماء الحاصلة لله تعالى من باب الأسماء المضمرة اعلم أن الأسماء المضمرة ثلاثة : أنا و أنت و هو. وأعرف الأقسام الثلاثة:
قولنا : - أنا،
لأن هذا اللفظ لفظ يشير به كل أحد إلى نفسه و أعرف المعارف عند كل أحد نفسه،
و أوسط هذه الأقسام قولنا : -
أنت، لأن هذا خطاب للغير بشرط كونه حاضرا فلأجل كونه خطابا للغير يكون دون قوله أنا و لأجل أن الشرط فيه كون ذلك المخاطب حاضرا يكون أعلى من قوله : - هو، فثبت أن أعلى الأقسام هو قوله : أنا و أوسطها : أنت و أدناها : هو. و كلمة التوحيد وردت بكل واحدة من هذه الألفاظ :
1. أما لفظ أنا ؛ فقال في أول سورة النحل : " {أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا} " [ النحل : 2 ] و في سورة طه : " {إنني أنا الله لا إله إلا أنا} " [ طه : 14 ]
2. و أما لفظ أنت فقد جاء في قوله : " {فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت} " [ الأنبياء : 87 ] وأما لفظ هو ؛ فقد جاء كثيرا في القرآن أولها في سورة البقرة في قوله : " {وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم} " [ البقرة : 163 ] وآخرها في سورة المزمل و هو قوله : " {رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا} " [ المزمل : 9 ]
وأما ورود هذه الكلمة مقرونا باسم آخر سوى هذه الأربعة ؛ فهو الذي حكاه الله تعالى عن فرعون أنه قال : " {آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل} " [ يونس : 90 ] ثم بين الله تعالى أن تلك الكلمة ما قبلت منه. إذا عرفت هذا ؛
فلنذكر أحكام هذه الأقسام فنقول :
أما قوله : لا إله إلا أنا ؛ فهذا الكلام لا يجوز أن يتكلم به أحد إلا الله أو من يذكره على سبيل الحكاية عن الله ؛ لأن تلك الكلمة تقتضي إثبات الإلهية لذلك القائل وذلك لا يليق إلا بالله - سبحانه - واعلم أن معرفة هذه الكلمة مشروطة بمعرفة قوله : أنا و تلك المعرفة على التمام والكمال لا تحصل إلا للحق سبحانه و تعالى ؛ لأن علم كل أحد بذاته المخصوصة أكمل من علم غيره به لا سيما في حق الحق تعالى
فثبت أن قوله لا إله إلا أنا لم يحصل العلم به على سبيل الكمال إلا للحق تعالى.
و أما الدرجة الثانية و هي قوله : لا إله إلا أنت ؛ فهذا يصح ذكره من العبد ؛ لكن بشرط أن يكون حاضرا لا غائبا : لكن هذه الحالة إنما اتفق حصولها ليونس عليه السلام عند غيبته عن جميع حظوظ النفس و هذا تنبيه على أن الإنسان ما لم يصر غائبا عن كل الحظوظ لا يصل إلى مقام المشاهدة.
و أما الدرجة الثالثة و هي قوله : لا إله إلا هو ؛ فهذا يصح من الغائبين. و اعلم أن درجات الحضور مختلفة بالقرب و البعد وكمال التجلي و نقصانه وكل درجة ناقصة من درجات الحضور ؛ فهي غيبة بالنسبة إلى الدرجة الكاملة و لما كانت درجات الحضور غير متناهية كانت مراتب الكمالات و النقصانات غير متناهية فكانت درجات الحضور و الغيبة غير متناهية فكل من صدق عليه أنه حاضر فباعتبار آخر يصدق عليه أنه غائب و بالعكس و عن هذا قال الشاعر : (أيا غائبا حاضرا في الفؤاد سلام على الغائب الحاضر) و يحكى أن الشبلي لما قربت وفاته قال بعض الحاضرين : قل لا إله إلا الله فقال : (كل بيت أنت حاضره غير محتاج إلى السرج) (وجهك المأمول حجتنا يوم تأتي الناس بالحجج) و اعلم أن لفظ هو فيه أسرار عجيبة و أحوال عالية فبعضها يمكن شرحه و تقريره و بيانه و بعضها لا يمكن. قال مصنف الكتاب (الإمام فخر الدين الرازي) : و أنا بتوفيق الله كتبت أسرارا لطيفة إلا أني كلما أقابل تلك الكلمات المكتوبة بما أجده في القلب من البهجة و السعادة عند ذكر كلمة هو أجد المكتوب بالنسبة إلى تلك الأحوال المشاهدة حقيرا فعند هذا عرفت أن لهذه الكلمة تأثيرا عجيبا في القلب لا يصل البيان إليه و لا ينتهي الشرح إليه فلنكتب ما يمكن ذكره فنقول : فيه أسرار : الفائدة الأولى : أن الرجل إذا قال : يا هو فكأنه يقول : من أنا حتى أعرفك و من أنا حتى أكون مخاطبا لك و ما للتراب و رب الأرباب و أي مناسبة بين المتولد عن النطفة و الدم و بين الموصوف بالأزلية و القدم ؟ فأنت أعلى من جميع المناسبات و أنت مقدس عن علائق العقول و الخيالات فلهذا السبب خاطبه العبد بخطاب الغائبين ؛ فقال : يا هو. الفائدة الثانية : أن هذا اللفظ كما دل على إقرار العبد على نفسه بالدناءة و العدم ؛ ففيه أيضا دلالة على أنه أقر بأن كل ما سوى الله تعالى ؛ فهو محض العدم ؛ لأن القائل إذا قال : يا هو فلو حصل في الوجود شيئان لكان قولنا هو صالحا لهما جميعا فلا يتعين واحد منهما بسبب قوله : هو فلما قال يا هو ؛ فقد حكم على كل ما سوى الله تعالى بأنه عدم محض و نفي صرف كما قال تعالى : " {كل شيء هالك إلا وجهه} " [ القصص : 88 ] و هذان المقامان في الفناء عن كل ما سوى الله مقامان في غاية الجلال و لا يحصلان إلا عند مواظبة العبد على أن يذكر الله بقوله : يا هو. الفائدة الثالثة : أن العبد متى ذكر الله بشيء من صفاته لم يكن مستغرقا في معرفة الله تعالى ؛ لأنه إذا قال : يا رحمن ؛ فحينئذ يتذكر رحمته فيميل طبعه إلى طلبها ؛ فيكون طالبا للحصة و كذلك إذا قال : يا كريم يا محسن يا غفار يا وهاب يا فتاح وإذا قال : يا ملك ؛ فحينئذ يتذكر ملكه و ملكوته و ما فيه من أقسام النعم فيميل طبعه إليه فيطلب شيئا منها و قس عليه سائر الأسماء أما إذا قال : يا هو ؛ فإنه يعرف أنه هو و هذا الذكر لا يدل على شيء غيره البتة فحينئذ يحصل في قلبه نور ذكره و لا يتكدر ذلك النور بالظلمة المتولدة عن ذكر غير الله و هناك يحصل في قلبه النور التام و الكشف الكامل. الفائدة الرابعة : أن جميع الصفات المعلومة عند الخلق إما صفات الجلال و إما صفات الإكرام أما صفات الجلال ؛ فهي قولنا ليس بجسم و لا بجوهر و لا عرض و لا في المكان و لا في المحل و هذا فيه دقيقة ؛ لأن من خاطب السلطان فقال : أنت لست أعمى و لست أصم و لست كذا و لا كذا و يعد أنواع المعايب و النقصانات ؛ فإنه يستوجب الزجر و الحجر و التأديب و يقال : إن مخاطبته بنفي هذه الأشياء عنه إساءة في الأدب و أما صفات الإكرام ؛ فهي كونه خالقا للمخلوقات مرتبا لها على النظم الأكمل وهذا أيضا فيه دقيقة من وجهين : الأول لا شك أن كمال الخالق أعلى وأجل من كمال المخلوق بمراتب لا نهاية لها فإذا شرحنا نعوت كمال الله و صفات جلاله بكونه خالقا لهذه المخلوقات ؛ فقد جعلنا كمال هذه المخلوقات كالشرح و البيان لكمال جلال الخالق و ذلك يقتضي تعريف الكامل المتعالي بطريق في غاية الخسة و الدناءة و ذلك سوء أدب و الثاني : أن الرجل إذا أخذ يمدح السلطان القاهر بأنه أعطى الفقير الفلاني كسرة خبز أو قطرة ماء ؛ فإنه يستوجب الزجر والحجر و معلوم أن نسبة جميع عالم المخلوقات من العرش إلى آخر الخلاء الذي لا نهاية له إلى ما في خزائن قدرة الله أقل من نسبة كسرة الخبز وقطرة الماء إلى جميع خزائن الدنيا فإذا كان ذلك سوء أدب ؛ فهذا أولى أن يكون سوء أدب فثبت أن مدح الله و ثناءه بالطريقين المذكورين فيه هذه الاعتراضات إلا أن ههنا سببا يرخص في ذكر هذه المدائح وهو أن النفس صارت مستغرقة في عالم الحس و الخيال ؛ فالإنسان إذا أراد جذبها إلى عتبة عالم القدس احتاج إلى أن ينبهها على كمال الحضرة المقدسة و لا سبيل له إلى معرفة كمال الله و جلاله إلا بهذين الطريقين أعني : ذكر صفات الجلال و صفات الإكرام فيواظب على هذين النوعين حتى تعرض النفس عن عالم الحس و تألف الوقوف على عتبة القدس فإذا حصلت هذه الحالة ؛ فعند ذلك يتنبه لما في ذينك النوعين من الذكر من الاعتراضات المذكورة و عند ذلك يترك تلك الأذكار و يقول : يا هو كأن العبد يقول : أُجِلُّ حضرتك أن أمدحك و أثني عليك بسلب نقائص المخلوقات عنك أو بإسناد كمالات المخلوقات إليك فإن كمالك أعلى و جلالك أعظم بل لا أمدحك و لا أثني عليك إلا بهويتك من حيث هي و لا أخاطبك أيضا بلفظة أنت ؛ لأن تلك اللفظة تفيد التيه والكبر حيث تقول الروح : إني قد بلغت مبلغا صرت كالحاضر في حضرة واجب الوجود ؛ و لكني لا أزيد على قولي : هو ؛ ليكون إقرارا بأنه هو الممدوح لذاته بذاته و يكون إقرارا بأن حضرته أعلى و أجل من أن يناسبه حضور المخلوقات فهذه الكلمة الواحدة تنبه على هذه الأسرار في مقامات التجلي و المكاشفات. فلا جرم كان هذا الذكر أشرف الأذكار لكن بشرط التنبيه لهذه الأسرار. الفائدة الخامسة : أن المواظبة على هذا الذكر تفيد الشوق إلى الله و الشوق إلى الله ألذ المقامات و أكثرها بهجة وسعادة إنما قلنا : أن المواظبة على هذا الذكر تورث الشوق إلى الله ؛ و ذلك لأن كلمة هو ضمير الغائب إذا ذكر هذه الكلمة علم أنه غائب عن الحق ثم يعلم أن هذه الغيبة ليست بسبب المكان و الجهة و إنما كانت بسبب أنه موصوف بنقصانات الحدوث و الإمكان و معيوب بعيب الكون في إحاطة المكان و الزمان فإذا تنبه العقل لهذه الدقيقة و علم أن هذه الصفة حاصلة في جميع الممكنات و المحدثات ؛ فعند هذا يعلم أن كل المحدثات و الإبداعيات غائبة عن عتبة علو الحق سبحانه و تعالى و عرف أن هذه الغيبة إنما حصلت بسبب المفارقة في النقصان و الكمال و الحاجة و الاستغناء فعند هذا يعتقد أن الحق موصوف بأنواع من الكمال متعالية عن مشابهة هذه الكمالات ومقدسة عن مناسبة هذه المحدثات و اعتقد أن تصوره غائب عن العقل و الفكر و الذكر فصارت تلك الكمالات مشعورا بها من وجه دون وجه و الشعور بها من بعض الوجوه يشوق إلى الشعور بدرجاتها و مراتبها و إذا كان لا نهاية لتلك المراتب و الدرجات ؛ فكذلك لا نهاية لمراتب هذا الشوق و كلما كان وصول العبد إلى مرتبة أعلى مما كان أسهل ؛ كان شوقه إلى الترقي عن تلك الدرجة أقوى وأكمل فثبت أن لفظ هو يفيد الشوق إلى الله تعالى و إنما قلنا : إن الشوق إلى الله أعظم المقامات ؛ وذلك لأن الشوق يفيد حصول آلام ولذات متوالية متعاقبة ؛ لأن بقدر ما يصل يلتذ و بقدر ما يمتنع وصوله إليه يتألم و الشعور باللذة حال زوال الألم يوجب مزيد الالتذاذ و الابتهاج و السرور، و ذلك يدل على أن مقام الشوق إلى الله أعظم المقامات فثبت أن المواظبة على ذكر كلمة هو تورث الشوق إلى الله تعالى و ثبت أن الشوق إلى الله أعظم المقامات و أكثرها بهجة و سعادة ؛ فيلزم أن يقال : المواظبة على ذكر هذه الكلمة تفيد أعلى المقامات وأسنى الدرجات.